فصل: تفسير الآيات (32- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (32- 35):

{وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}.
التفسير:
الواو في قوله تعالى: {وإذ قالوا} للاستئناف.
ومناسبة الآية لما قبلها أنها تعرض حالا من أحوال المشركين، وتكشف عن وجه كريه من وجوه ضلالهم وسفههم.. فإنهم بعد أن رموا النبيّ بالكذب على اللّه، وأن ما جاءهم به ليس إلّا من أساطير الأولين، استملاها من علماء أهل الكتاب، وأنهم لو شاءوا أن يجيئوا بمثل ما جاءهم به لما كان عليهم إلا أن يرجعوا إلى علماء أهل الكتاب، ويردوا المورد الذي ورده، فيجيئون بمثل هذا الذي معه- إنهم بعد هذا، لم يقفوا عند هذا الحدّ، بل أمعنوا في الاتهام والتكذيب، بأن طلبوا إلى اللّه أن يمطر عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بعذاب أليم، إن كان هذا الذي جاء به محمد حقا من عند اللّه!؟
وليس أبعد في الضلال، ولا أسفّ في السفه، من أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب المشحون بالبلاء، المحمول على صدر بحر متلاطم الأمواج، عاصف الريح، وقد كان بين أيديهم أن يستقلّوا السفين القاصد إلى شاطئ الأمن والعافية، السابح فوق صفحة ماء رقراق، المسيّر بيد ريح رخاء!.
فماذا يدعوهم إلى هذا اللّجاج في العناد، وإلى هذا التحدي لمنازلة البلاء؟
إنه لا شيء إلا الجهل الذي يعمى البصائر، وإلا الضلال الذي يطمس على القلوب! وماذا عليهم لو جعلوا دعاءهم إلى اللّه أن يهديهم سواء السبيل، وأن يقيمهم على طريق الحق، إن كان هذا الذي جاءهم به محمد هو الحق؟
إنهم لن يخسروا شيئا، لو كان الذي جاءهم به محمد هو قول تقوّله، أو أساطير اكتتبها.. فلو استجاب اللّه لهم لعافاهم من البلاء، ولصرف عنهم السوء.
وإنهم ليربحون الربح أعظم الربح، لو كان الذي جاءهم به محمد على غير ما ظنوا وتوهموا.. فكان الحقّ من عند اللّه، والهدى المحمول في كلماته، والرحمة المرسلة مع آياته..!!
ولكن القوم عتوا عتوّا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا، فسألوا اللّه أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يسوق عليهم البلاء المبين والعذاب الأليم! {وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ}.
هكذا يقولونها بملء أفواههم.. وهكذا يفعل الجهل بأهله، ويلجّ الضلال بأرباب الضلال!.
ولو أنهم كانوا على شيء من الحكمة والروية، لأخذوا موقفا غير هذا الموقف المشرف بهم على مهاوى الهلاك، ولأخذوا بهذا الأسلوب الحكيم الذي رسمه ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون، في نصحه للضالين المعاندين من قومه، إذ يقول لهم هذا القول الذي حكاه القرآن عنه:
{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} (28: غافر)
وقد استحق القوم أن يدانوا بما دانوا به أنفسهم، وأن يأخذوا بما شاء اللّه أن يأخذهم به، وهو أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم، إذا كان هذا الذي جاءهم به محمد هو الحق من عند اللّه.. فكيف يكون حكم اللّه فيهم بعد هذا؟
لقد كان اللّه سبحانه وتعالى حفيّا بنبيه، الذي أرسله هدى ورحمة للعالمين، فلم يشأ- سبحانه- أن يأخذهم بالعذاب، وأن يعجل لهم العقوبة، والنبي الكريم بين أظهرهم، حتى لا يسوءه اللّه فيهم، ولا يحزنه بمصرعهم على يديه.
وفى هذا يقول سبحانه: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وهكذا يفلت القوم من هذا البلاء الذي عرّضوا أنفسهم عليه، وألقوا بأيديهم بين يديه، فلم يعجل اللّه لهم العذاب، إكراما لرسوله الكريم، وحماية لحمى موطن تعطّره أنفاسه، ولأرض وطئتها قدماه! وأكثر من هذا، فإن هذا الفضل العظيم من اللّه سبحانه لا يرفع عن هذه الأمة، بعد أن رفع نبيها إلى الرفيق الأعلى، بل إنه قائم فيها إلى يوم القيامة، ما دامت كلمة الاستغفار تجرى على شفاههم، كلما بعد بهم الطريق عن اللّه، وتغشاهم الجهل والضلال.. فإن طريقهم إلى اللّه مفتوح أبدا، ووجهتهم إليه مستقيمة دائما، إذا هم ذكروه، واستغفروا لذنوبهم، وعرضوا أنفسهم عليه، تائبين نادمين.
اقرأ قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإنك ستجد فيها أنسام الرحمة والرضوان تهب على هذه الأمة، فتدفع عنها كل بلاء، وتصرف عنها كل جائحة.
وهذا هو السر في تخالف النظم بين قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} وبين قوله سبحانه: {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
فإن الفعل يعذب مقيد بزمن معين، وهو حال حياة النبيّ فيهم.
أما اسم الفاعل معذّب فهو غير محدود بزمن، والقيد الوارد عليه هو قيد الاستغفار، وهو عتيد حاضر مع هذه الأمة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
وقوله تعالى: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
الاستفهام هنا تهديدى، فيه نذير لهؤلاء المشركين الضالين، الذين يمسكون بما هم فيه من شرك وضلال، لا يستجيبون للّه، ولا يدعون المؤمنين يلمّون بالمسجد الحرام، ويوجهون وجوههم إلى ربهم، بل يصدونهم عنه، ويحولون بينهم وبينه.
ثم إنهم من جهة أخرى، ليسوا أولياء اللّه، حتى يتجاوز لهم عن آثامهم تلك، شأن الولىّ مع من يتولاه، ويغفر له زلاته، ويلقاه بفضله وإحسانه.
فاللّه سبحانه وتعالى، لا يتولى إلا المتقين، الذين جعلوا للّه ولاءهم، فآمنوا به وتعبدوا له، واستقاموا على شريعته: {إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}.
وإن هنا نافية، بمعنى ما أي ما أولياؤه إلا المتقون، كما يقول سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ}.
هذا، ويرى أكثر المفسرين أن الضمير في قوله تعالى: {أولياءه} يعود إلى المسجد الحرام، أي وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام، وأهل القوامة عليه.. ذلك أنه بيت اللّه، بل أول بيت وضع للناس، ومن هنا فإنه لا يستحق أن يكون قائما على خدمته، وحراسته، إلا أهل الإيمان والتقوى.. فكيف يدّعى هؤلاء المشركون القوامة على أمر هذا المسجد الحرام، وهم حرب عليه، وعلى الطائفين به، والمصلّين فيه من عباد اللّه المؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [17- 18: التوبة].
فهل يعمر مسجد اللّه هؤلاء المشركون الذين يأتون المنكرات، ويصدون الناس عن سبيل اللّه، ويجعلون صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى بعد هذه الآية؟ وهذا الرأى الذي يقول به أكثر المفسّرين يتسع له النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة، كما يتسع للمعنى الذي ذهبنا إليه.. فالمشركون ليسوا أولياء اللّه، ولا أولياء بيت اللّه.
قوله تعالى: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.
المكاء: الصفير، ومنه قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدّلا ** تمسكوا فريصته كشدق الأعلم

أي تضطرب فريصته بالدم المتفجر، ويحدث من اضطرابها صوت كهذا الصوت الذي ينبعث من شدق البعير حين يرغو، وذلك من أثر الضربة النافذة، التي تشبه شدق البعير في سعتها وعمقها.
والتصدية: التصفيق، الذي ينبعث له صدى.
والمعنى أن صلاة هؤلاء المشركين التي يؤدونها لأصنامهم عند البيت الحرام- هذه الصلاة ليست إلا ضربا من اللهو والعبث، حيث لا يجدون ما يقولونه لهذه الأحجار المرصوصة، وتلك الخشب المسندة! وإذ يعوزهم القول في هذا المقام، وتنهزم في كيانهم مشاعر الجدّ والوقار لهذه المعبودات التي يتعبدون لها- فإنه لكى يكون لصلاتهم تلك، صوت يسمع، وأثر يحسّ، وواقع يرى- فقد استجلبوا لها هذه الأصوات المنكرة، وتلك الجلبة العمياء، حتى حتى يداروا بها عوار هذه المظاهر الكاذبة، التي تفضح المستور مما يدور في خواطرهم من هزء وسخرية، بتلك الآلهة التي يؤدون لها هذا الولاء الزائف، والذي لو انكشف مستوره لكان صفعا وركلا، ولكنه جاء صفيرا وتصفيقا، أقرب شيء إلى الصفع والركل.. (الصفع بالأيدى، والركل بالأرجل).
وفى قوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} إشارة إلى أن هذا الذي يأتونه، هو كفر باللّه، وصدود عن سبيله، بتولية وجوههم إلى هذه السخافات، وقطع عمرهم في هذا العبث، الذي يحسبونه عبادة، ويعدونه صلاة، يجزون عليها جزاء العابدين المصلين..!!
والعذاب الذي قدم إليهم هنا ليذوقوه، وليطعموا منه، هو ما نزل بهم من هزيمة منكرة يوم بدر، وما أريق فيه من دماء ساداتهم وكبرائهم.
وتلك جرعات عاجلة، في هذه الدنيا، ولعذاب الآخرة أقسى قسوة، وأمرّ مرارة.

.تفسير الآيات (36- 40):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}.
التفسير:
ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم ينفقون أموالهم فيما يكيدون به لأنفسهم، ويصرفونها به عن الخير، ويوردونها به موارد الهلكة والبوار.
ومن عادة العقلاء ألا ينفقوا أموالهم ألا فيما يعود عليهم منه خير، يجدونه في أنفسهم، أو في أهليهم، أو في المجتمع الإنسانىّ، خاصة أو عامة.
أما أن يشترى الإنسان بماله ما يفسد حياته، ويغتال إنسانيته، ويدمّر وجوده، فذلك هو الذي لا يرى إلا في عالم المجانين والحمقى.
وهؤلاء المشركون قد بذلوا أموالهم في سخاء، وقدموها في رضى وغبطة، ليطفئوا بها نور اللّه الذي أرسله إليهم، وليخفتوا بها صوت الحق الذي بعثه اللّه ليؤذّن فيهم بآياته، فاشتروا بهذا المال الرجال والعتاد، وجعلوا من هذا جيشا جرارا ساروا به إلى النبيّ الكريم يوم بدر، يريدون القضاء عليه، وعلى الجماعة التي استجابت له، وآمنت باللّه وبرسوله.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
هكذا فعل المشركون، وهكذا وجهوا المال الذي جعله اللّه في أيديهم.
{فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}.
وفى التعبير بفعل المستقبل عما فعلوه في الماضي، تهديد ووعيد لهم، بأن الأموال التي سينفقونها فيما بعد على هذا الوجه الذي أنفقوه فيها في موقعة بدر- ستكون عليهم حسرة، وستجرّ عليهم الخزي والبلاء كما جرته عليهم أموالهم التي أنفقوها في تلك الموقعة.
حيث تذهب هذه الأموال من أيديهم، ثم تعود إليهم على هيئة رزايا ونكبات.
{ثُمَّ يُغْلَبُونَ} هو نذير لهم بما يلقاهم من مصير مشئوم، من هذا المال الذي أنفقوه، وانتظروا الثمر الجنىّ الطيب منه، بالنصر على المسلمين، واستئصالهم، وهذا ما لا يكون أبدا، ولن يكون إلا الهزيمة، وسوء المنقلب للمشركين.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
وليست الهزيمة وحدها هي التي تنتظر هؤلاء المشركين، بل سيكون العذاب الأليم في الآخرة هو مصير أولئك الذين يمضون في طريقهم هذا إلى النهاية، فلا يرجعون إلى اللّه، ولا ويؤمنون به وبرسوله.
وفى العطف بثم التي تفيد التراخي في قوله تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} وفى قوله سبحانه: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إشارة إلى أن الحسرة والهزيمة قد لا يكونان بعد كل مال ينفقونه، فقد يقع للمشركين في بعض مواقفهم من المسلمين ما يحسبونه نصرا، ويرونه وجها نافعا مثمرا لهذا المال الذي أنفقوه، كما كان في موقعة أحد.
ولكن العبرة في هذا بالموقعة الفاصلة، التي تنكس فيها راية الشرك إلى الأبد، ويخفت صوت المشركين إلى يوم الدين.. وذلك ما انتهى إليه الأمر بين المسلمين والمشركين، فقد دخل رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- يقود جيش الإسلام- دخل على الشرك في حصنه فاتحا مظفرا، فأجلى عن البيت الحرام ما احتشد فيه من أصنام وأنداد، وألقى بها في مسالك مكة ودروبها، تدوسها الأقدام، وتحيلها أشلاء ممزقة، يمر بها الناس كما يمرون بالجثث المتعفنة، يتساقط عليها الذباب، وترعى فيها الهوام والحشرات.
قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ}.
أي أن هذا الصراع الذي يقع بين الحق والباطل، ويدور بين المحقين والمبطلين، هو ابتلاء واختبار، تتبين به مواقف الناس، وتعرف به وجوههم، حيث يجتمع المؤمنون إلى المؤمنين، وينحاز المشركون إلى المشركين والضالين، ويوفى كلّ حسابه وجزاءه.
وفى قوله تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}.
إشارة إلى أن مجتمع الكفر والضلال، مجتمع فاسد ليس لإنسان فيه ذاتية، يتميز فيها إنسان عن إنسان، بعقله، ومدركاته، ومشاعره، كما يتميز عقلاء الناس، كلّ بإدراكه وإحساسه وشعوره.. فهم أشبه بقطيع من الحيوان، ليس لأحدها في حقيقته ما يميزه عن غيره، إلا باللون أو الحجم، أما ما وراء ذلك فهى جميعها سواء فيه.. ومن هنا كان التعبير القرآنى:
{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ} أي يخلط بعضه ببعض خلطا لا حساب فيه لشيء، ولا تقديم لشيء على شيء، وإنما حكمها جميعا حكم حزمة الحطب يحتويها حبل واحد.. ثم كان التعبير القرآن {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي أن غاية هذا الجمع لتلك الجماعات الضالة هو إعدادها للوقود، وإلقاؤها في جهنم.
هكذا يفعل بالحطب حين يجمع، وحين يقدّم للوقود! وهكذا الخبيث من الأشياء، والنفاية من كل شيء، يلقى به.. بلا حساب ولا تقدير!.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} هو تهديد، ووعيد لهؤلاء المشركين الذين أخزاهم اللّه يوم بدر.. فإن يكن فيما حدث لهم يوم بدر موعظة وعبرة، فيؤمنوا باللّه، ويصدّقوا برسوله، ويصحبوا مؤمنين مع المؤمنين- إن يفعلوا ذلك قبلهم اللّه، وغفر لهم ما كان منهم من منكرات وآثام، وإن يعودوا إلى ما هم فيه من كفر وعناد، ومحادّة للّه ورسوله، فقد عرفوا ما سيحل بهم من عذاب اللّه لهم.. فتلك هي سنة اللّه في خلقه، وذلك هو حكمه على الظالمين الآثمين: الخزي والخذلان في الدنيا، والعذاب والنكال في الآخرة.. ولقد فتح اللّه باب التوبة والقبول لمن كان له مع نفسه مراجعة، وله إلى اللّه عودة.. فماذا ينتظر هؤلاء المشركون الذين ركبوا رؤوسهم، وأوشكوا أن يصبحوا في الهالكين؟.
وقوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
هو أمر للمسلمين، وبيان لموقفهم الذي يقفونه من المشركين، وهو الجدّ في قتالهم، وأخذهم بالبأساء والضراء حتى تنكسر شوكتهم، وتضعف قوتهم، فلا تكون لهم يد على المؤمنين، ولا قوة على الوقوف في سبيل اللّه، وصدّ الناس عنه، وفتنتهم في دينهم، وحتى يكون الدين كله للّه، لا شريك له مما يشرك به المشركون.
وهذا الأمر الموجه للمسلمين هو احتراس من أن يهادنوا المشركين، ويدعوا أمرهم إلى اللّه، ليقضى فيهم قضاءه الذي قضاه في الظالمين من قبلهم.
فهذا القضاء وإن كان واقعا لا محالة من قبل اللّه بأهل المنكر والضلال، إلا أنه مطلوب من أولياء اللّه أن يعملوا له، وأن يأخذوا بالأسباب المنفّذة لقضاء اللّه النافذ، ولحكمه الذي لا يردّ.. فذلك هو البلاء الذي ابتلى به المؤمنون، ليكون لإيمانهم أثره وثمرته التي يحصّلونها منه، وينالون الجزاء الحسن عليه.
وقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تأكيد لهذا الأمر الذي أمر اللّه به المسلمين، من الجدّ في جهاد المشركين، وأن اللّه مطلع على ما يكون منهم من بلاء في الاستجابة لهذا الأمر، وصدق في الوفاء به، حتى يكون من المشركين انتهاء عن محاربة اللّه، بعد أن يضربهم المسلمون الضربة القاضية.
وقوله سبحانه: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
هو تطمين للمؤمنين، وتقوية لعزائمهم على مواجهة الكافرين، ولقائهم تحت راية القتال، إذا هم أصروا على ما هم فيه من كفر، ومن محادّة للّه ولرسوله وللمؤمنين.. فليثبت المؤمنون في موقفهم هذا من الكافرين، وليقاتلوهم قتالا لا هوادة فيه، حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كله للّه، واللّه سبحانه وتعالى يتولى المؤمنين، ويمدّهم بنصره وتأييده، ومن كان اللّه مولاه وناصره فلن يهن أبدا، ولن يخذل أبدا.
وقوله تعالى: {نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} إما أن يكون صفة للّه سبحانه، وصف بها ذاته، وإما أن يكون مقولة للمؤمنين، يلقون بها هذا الفضل العظيم الذي فضل اللّه عليهم به، فيما آذنهم به في قوله: {فاعلموا أن الله مولاكم} ويكون هذا تلقينا من اللّه لهم، ولسان شكر يؤدون به للّه بعض ما وجب عليهم للّه، إزاء هذا العطاء الكريم الجزيل.
وإما أن يكون ذلك مقولة للوجود كله، نطق بها كل موجود، إذ سمع قول اللّه تعالى للمؤمنين: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} فسبح الوجود كله بحمد اللّه، ليكون له نصيبه من تلك الولاية، التي تولى بها اللّه المؤمنين من عباده.
{أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فانضم الوجود كله إلى المؤمنين وشاركهم الاستماع إلى هذا الخطاب الكريم من رب كريم:
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} فقال الوجود كله: {نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.